القديس العظيم مارجرجس
صفحة 1 من اصل 1
القديس العظيم مارجرجس
القديس جرجس الشهيد (ماري جرجس)
مار جرجس من أكثر القديسين شهرة؟، وأعظمهم شعبية في الشرق والغرب. وقد انتشرت الحكايات الشعبية عنه حتى اختلط فيها التاريخ بالاسطورة، وتمثلت الحقيقة بصورة الزمن، بعد أن تبارى كبار الفنانين غرباص وشرقاً، في اخراج ظفر البطل المناضل بالشرير الرجيم، وانتصار الفارس القديس، للكنيسة، على عدوّها اللدود ممثّلاً بالتنين الشرس.
نشأته: أما خلاصة المعطيات التاريخية المستندة في أساسها إلى "تاريخ" أوسابيوس القيصري(+339) و"مؤسسات" لأكثانسيوس (+325) – وكلاهما من معاصري الامبراطور ديوقلسيانوس مثير ذلك الاضطهاد الهائل الذي كان من ضحاياه القديس جرجس – فهي أن الشهيد المذكور ولد حوالي سنة 280 في أسرة مسيحية من سكان اللّد في فلسطين، بين يافا والقدس. ونشأ نشأة تقوية، حتى إذا بلغ السابعة عشرة انخرط في سلك الجندية، في كتيبة الخيّالة.
وسرعان ما ظهر فارساً ماهراً، فرقي في المراتب العسكرية حتى رتبة مقدّم أي قائد ألف. وعُيّن في الحرس الامبراطوري في نيقوميدية العاصمة الشرقية للدولة.
وكان الامبراطور ديوقلسيانوس (284 – 305) قد أثار اضطهاداً عنيفاً على المسيحيين، دام من سنة 303 حتى السنة 313. وعُرف باسمه مع أنه استمر حتى بعد اعتزاله الحكم سنة 305 . وأصدر بذلك منشوراً أمر بتعليقه على جدران البلاط الملكي.
استشهاده: دفعت الحمية القائد الشاب، فأقدم على تمزيق المنشور. فثار غضب الامبراطور، وأمر باعتقال الضابط، وكان في الثالثة والعشرين من عمره. ثم أنزل فيه أفانين العذاب والنكال لدفعه إلى الندامة، واستغفار الآلهة والتضحية لها. فلم يتراجع الشاب، ورفض أن يشرك بالاله الواحد الحق. فأمر الامبراطور بقطع رأسه.
وقد اشتهر صيت الشهيد، وانتشر تكريمه فور استشهاده، بدليل أن الامبراطور قسطنطين الكبير (306 – 337) شيّد في عاصمته الجديدة القسطنطينية، كنيسة فخمة على اسم القديس جرجس، ونقل إليها بعض ذخائره، ولم يكن قد مرّ على استشهاده ثلاثون سنة. وينسب التقليد إلى قسطنطين كذلك، بناء كنيسة اللّد، مسقط رأس الشهيد.
فاستشهاد القديس جرجس إذاً حقيقة تاريخية ثابتة لا سبيل إلى الشك فيها. وقد أيّد ذلك لإي أيامنا الآباء اليسوعيون البولنديون في دراساتهم النقدية لتراجم القديسين، مستندين إلى ما ذكرناه من أقوال المؤرخين المعاصرين، وإلى التقليد الشعبي المتتابع من أوائل القرن الرابع في تكريم القديس والإفاضة في ذكر فضائله وكراماته.
ومن أقدم الكنائس المشيّدة على اسمه، بعد كنيسة القسطنطينية التي ذكرناها، كنيسة البثنية من أعمال حوران المشيّدة سنة 367 . ثم كنيسة أزرع في حوران أيضاً وهي لا تزال قائمة وإن كانت أحداث الدهر، وغزوات المعتدين قد نالت منها كثيراً.
وكان طبيعياً أن يتوسع الرواة في أعاجيب القديس جرجس ومعجزاته، كما توسّعوا في تنويع عذاباته، فتظهر الحقيقة على أروع ما يمكن من التأثير في الشعب، ويحيا التاريخ في مظاهر الاسطورة.
نموّه في الخيال: ولعلّ ما يُذكر من هذه التوسعات الاضافية ما تناقلته السنكسارات الشرقية من أن ديوقليسيانوس دفعته الشفقة على الضابط الشاب، بعد اثخانه بالجراح، وأراد تخليصه من الموت، فعرض عليه، باللطف والغراء، أن يعود إلى صوابه، ويرفع الذبائح للاله أبولونظن كافراً بالمسيح، فتظاهر جرجس بالقتناع.
ولمّا كان اليوم الثاني، موعد ارتداد جرجس، تقدم الامبراطور في موكب الأعيان، وجمهور الشعب، ليحضروا تقديم القربان للاله أبولون. وإذا بجرجس يتقدم ببطء إلى تمثال أبولون، فيتفرّس فيه ملياً، ثم يرسم على وجهه إشارة الصليب، ويقول للصنم بصوت عال: "أتريد أن أقدّم لك الذبائح كأنك إله السماء والأرض؟".
فيخرج صوت جهوري من أحشاء الصنم: "لا! لا! أنا لست الإله، إنما الإله الذي تعبده أنت". ثم يسقط الصنم على الأرض، وتسقط معه سائر الأصنام في الهيكل. وتخرج من الجدران أصوات منكرة تذعر الشعب. فيصيح الكهنة: "جرجس حطّم آلهتنا بسحره الشيطاني. فالموت للساحر!". فييثور الشعب على جرجس، ويهمّ بتمزيقه فيخلّصه الجنود. ثم يأمر الامبراطور بقطع رأسه ليهدئ ثورة الشعب.
وأوسع الحكايات وأغربها ما جمعه صاحب كتاب "بغية السائلين" في أخبار الرسل والأنبياء، وهو كاتب مسلم، أطلع على ما رواه الطبري في كتاب "الرسل والملوك" وما توسّع فيه الثعلبي في "قصص الأنبياء"فزاد عليها حتى جعل الملك يقتل جرجس ثلاث مرات ويذري رماده، ثم يقيمه الله، فيعود ألى التبشير بالإله الحق، والازدراء يأفلّون وسائر الأصنام. فيغضب الملك الغضبة الأخيرة وتكون الميتة الرابعة النهائية.
ولا شك في أن هذه الحكاية كانت مشهورة متداولة في الأوساط المسيحية والإسلامية من أعالي الجزيرة إلى صعيد مصر، حتى أمكن أن يشير إلى تفاصيلها الميمر المتلو لدى الأقباط في عيد القديس المذكور والمنسوب إلى بطريرك المشرق على النساطرة غيليا الثالث المعروف بابن الحديثي (1177 – 1190).
اسطورة التنين: وينتج من تحريات الآباء الولنديين أن ظهور التنين في حكاية مار القرن الحادي عشر. والتنّنن على ما استقر عليه جرجس لم يسبق التفسير، يمثل ابليس اللعين، عدوّ الكنيسة وأبنائها. وكما أن ابنة الملك ترمز إلى الكنيسة نفسها، عروسة المسيح، التي يهددها ابليس. ولا يخفى أن ابليس، في حكاية القديس جرجس، كان هو المتكلم في جوف أبولون، الصنم الأكبر. فيكون أن القديس جرجس بإسقاطه الأصنام وطرده ابليس من جوف الصنم الأكبر، قد خلّص الكنيسة من عدوّها اللدود. وهكذا اقترن الرمز بالحقيقة.
وما أن نقل الصليبيون هذه السيرة الممتعة إلى بلادهم حتى غدت مجالاً لأرباب الفن، سرداً، وتمثيلاً، ورسماً أو موسيقى. فبدا مار جرجس في بعض جدرانيات الكنائس قائداً شجاعاً يبرز في طليعة الجيش. وظهر في تمثال شهير في كاتدرائية شارتر بفرنسا وآخر في فلورنسا في ثياب الحرب، متوثباً للقتال. ومثّله بعضهم خيّالاً فارساً يعارك التنين انتصاراً للفتاة المظلومة المعرّضة للافتراس. وهناك العديد من الايقونات البيزنطية والروسية. ومنها أيقونة كنيسة مار جرجس في كنيسة مار جرجس في السليمانية.
وكان لا بدّ من بحر يخرج منه التنين، ومن ساحل يكون ميداناً للعراك. وكانت انكلترا أول من ادعت هذا الشرف لساحلها. وكان لمار جرجس إكرام بالغ فيها وأعلن شفيعاً للمملكة وكثرت الكنائس المبنية لاكامه، وتسمّى عدد منملوكها بإسمه، ونقشوا صورته على نقدها الذهبي إلى اليوم.
وتكوّنت منذ القرون الوسطى حكاية خروج التنين من بحر بيروت، ومصرعه برمح مار جرجس على الساحل، قرب نهر بيروت. وعمّ الإيمان بذلك المسيحيين والمسلمين على ما يستنتج من قول صالح بن يحيى (+1436) في كتابه تاريخ بيروت: "زعم النصارى أن في القديم خرج من بيروت تنين عظيم. فقرر أهل بيروت له، في كل عام، بنتاً يخرجونها إليه اتقاءً لشره. فوقعت القرعة، في سنة من السنين، على صاحب بيروت. فأخرج بنته ليلاً إلى مكان موعد التنين. فتوسّلت بالدعاء إلى الله. فتصوّر لها مار جرجس القديس. فلما جاء التنين، خرج عليه مار جرجس فقتله. فعمّر صاحب بيروت في ذلك المكان كنيسة بالقرب من النهر". وباسم مار جرجس سُمي الخليج المحيط ببيروت.
ولا شك في أن لمار جرجس نظراً لكثرة المتعبّدين له مكانة خاصة بين القديسين الشفعاء في السماء أيضاً.
ماذا يقول التاريخ في مار جرجس؟
كان القديس جرجس من أشراف "كبادوكية". والداه مسيحيان ربياه على الفضيلة وأدخلاه سلك الفرسن، فتعلم فنون الحرب ونشأ شاباً مقداماً. وقد اتصل بالملك ديوكليسانوس فأحبه لبطولته ورقاه إلى رتبة قائد، وهو ما يزال في سن العشرين.
وفي ذات يوم أعلن الملك اضطهاداً على النصارى في مجمع وزرائه حضره القائد جرجس، فتصدى هذا للملك يعارض الاضطهاد ويبين فضائل النصرانية. وبعد أخذ ورد مع الملك إلا اعتقاله والأمر بتعذيبه. ثم عاد فاشفق عليه واستدعاه يوماً ومعه جمهرة من أعوانه إلى هيكل الأصنام وأخذ ينصحه بترك النصرانية والسجود للأصنام فيصفح عنه ويعيده إلى رتبته.
عندئذ التفت جرجس إلى الأصنام وصاح بها قائلاً: "من أنتِ أيتها الأصنام أفصحي عن أمرك. هل أنت آلهة تستحقين أن أسجد لك وأعبدك؟ " فأذن الله أن تجاوبه الأصنام بالنفي قائلة: "انها ليست إلا حجارة لا حياة لها ولا قوة". فرسم جرجس على وجهه شارة الصليب وهو يقول للأصنام: "فليسحقك الله!". وإذا بالأصنام تتساقط كلها إلى الأرض محطمة مهشمة.
بهت الملك والحاضرون من هول ما رأوا وتولاهم الخوف والذهول. وكان إلى جانبهم كاهن من كهنة الأصنام معروف بالدهاء فتقدم من الملك والأ‘وان وأقنعهم بأن عمل جرجس لم يكن إلا ضرباً من السحر والشعوذة، وطلب من الملك أن يتلافى أثره اليء في الناس بقطع رأس الضابط، وإلا فلا يطول الأمر حتى يصير كل من يسمعون بخبر هذا الحادث مسيحيين، وفي ذلك خراب المملكة وسقوط الملك عن عرشه.
استصوب الملك ما يل له وأصدر أمره بقطع رأس جرجس وبذلك نال اكليل الشهادة سنة 303 وله من العمر 23 سنة.
أساطير شعبية عن مار جرجس
ولم تلبث أخبار الشهيد جرجس أن تسربت إلى الأوساط الشعبية فأخذوا يبنون عليها القصور والعلالي. وبعد أن عزت النصرانية بتنصر قسطنطينأُقيم له عيد بولغ في تكريمه وأخذت الخوارق تتوافر بشفاعته ولكن الناس عمدوا إلى المبالغة في التحدث عنها.
واتفق ان قسطنطين اتخذ جرجس شفيعاً لجيشه وأقام له تماثيل رمزية نصبت في بعض مدن المملكة، تمثله راكباً ظهر جواده وتحته تنين يطعنه برمحه إلماعاً إلى انتصاره على عباده الوثن، إلى جانبه فتاة يشير بها إلى البلاد أو المدينة التي خلصها من الشرك باستشهاده.
فمن هذا التمثال حاك العامة حول القديس جرجس اسطورة التنين وقصة بنت الملك ونسبوها إلى عدة مدن. وقام الزالون ينشدون عنها قصئد زجلية ضمنوها وصف الأسطورة كما كانت تتناقل على الألسن منها قصيدة "مديحة مار جرجس" هاك ملخصها:
أن جرجس كان ضابطاً رومانياً. وفيما كان على رأس فرقته في بيروت ظهر في بحر المدينة تنين عظيم كان يأكل الناس. فجمع ملك المدينة أهل مشورته وبحثوا في كيف يتلافون فتكه، وقرروا أن يقدموا له نعجتين حتى إذا ما أكلهما وشبع يكف عن العباد شره. ولكن التنين كان يؤثر لحوم الناس فظل يفترس أي من ساقه سوء طالعه إلى الوقوع بين براثنه.
عاد الملك فعقد مجلساً استطرد فيه البحث في كيف يحصر ضرر التنين. فقرَّ القرار على أن يقدم له كل يوم نعجة ومعها فتاة تنتخب بالقرعة من فتيات المدينة دون ما فرق بين الأشخاص والدرجات.
أصابت القرعة ذات يوم بنت الملك وكانت فتاة بارعة الجمال. فأحدث وقوع القرعة عليها ضجة كبيرة في المدينة ومشى الملك والناس وراءها إلى البحر وهم يودعونها ويبكون. ولكن ما هو ان مشت الفتاة إلى التنين الممدد على الشاطئ فاغراً فاه لابتلاعها، حتى شاهدت الضابط جرجس يسبقها إليه وهو على ظهر جواده والرمح مشرع في يمينه يسدده إلى صدر التنين.
ظنت الفتاة أن الضابط الشاب يغرر بنفسه معرضاً ذاته للموت في سبيل جمالها، فأشفقت على شبابه ونصحته بالهرب. ولكنه لم يفعل، بل اقتحم التنين بقلب قُدّ من حديد ورشقه برمحه فأرداه قتيلاً.
ارتفعت هتافات الفرح من الملك والأهلين وتقدموا من الضابط يشكرونه وعرض عليه الملك تزويجه من الفتاة. فأبى قائلاً انه فعل ما فعل قياماً بواجب دينه. فسألوه ما دينك؟ أجاب النصرانية! فتنصر الملك وكل رعيته. أما التنين فقد رموا جثته في البحر يجرها سبعة فدادين. وأقاموا على اسم القائد جرجس بعد استشهاده كنيسة قرب المحلة التي قتل التنين فيها..
مار جرجس من أكثر القديسين شهرة؟، وأعظمهم شعبية في الشرق والغرب. وقد انتشرت الحكايات الشعبية عنه حتى اختلط فيها التاريخ بالاسطورة، وتمثلت الحقيقة بصورة الزمن، بعد أن تبارى كبار الفنانين غرباص وشرقاً، في اخراج ظفر البطل المناضل بالشرير الرجيم، وانتصار الفارس القديس، للكنيسة، على عدوّها اللدود ممثّلاً بالتنين الشرس.
نشأته: أما خلاصة المعطيات التاريخية المستندة في أساسها إلى "تاريخ" أوسابيوس القيصري(+339) و"مؤسسات" لأكثانسيوس (+325) – وكلاهما من معاصري الامبراطور ديوقلسيانوس مثير ذلك الاضطهاد الهائل الذي كان من ضحاياه القديس جرجس – فهي أن الشهيد المذكور ولد حوالي سنة 280 في أسرة مسيحية من سكان اللّد في فلسطين، بين يافا والقدس. ونشأ نشأة تقوية، حتى إذا بلغ السابعة عشرة انخرط في سلك الجندية، في كتيبة الخيّالة.
وسرعان ما ظهر فارساً ماهراً، فرقي في المراتب العسكرية حتى رتبة مقدّم أي قائد ألف. وعُيّن في الحرس الامبراطوري في نيقوميدية العاصمة الشرقية للدولة.
وكان الامبراطور ديوقلسيانوس (284 – 305) قد أثار اضطهاداً عنيفاً على المسيحيين، دام من سنة 303 حتى السنة 313. وعُرف باسمه مع أنه استمر حتى بعد اعتزاله الحكم سنة 305 . وأصدر بذلك منشوراً أمر بتعليقه على جدران البلاط الملكي.
استشهاده: دفعت الحمية القائد الشاب، فأقدم على تمزيق المنشور. فثار غضب الامبراطور، وأمر باعتقال الضابط، وكان في الثالثة والعشرين من عمره. ثم أنزل فيه أفانين العذاب والنكال لدفعه إلى الندامة، واستغفار الآلهة والتضحية لها. فلم يتراجع الشاب، ورفض أن يشرك بالاله الواحد الحق. فأمر الامبراطور بقطع رأسه.
وقد اشتهر صيت الشهيد، وانتشر تكريمه فور استشهاده، بدليل أن الامبراطور قسطنطين الكبير (306 – 337) شيّد في عاصمته الجديدة القسطنطينية، كنيسة فخمة على اسم القديس جرجس، ونقل إليها بعض ذخائره، ولم يكن قد مرّ على استشهاده ثلاثون سنة. وينسب التقليد إلى قسطنطين كذلك، بناء كنيسة اللّد، مسقط رأس الشهيد.
فاستشهاد القديس جرجس إذاً حقيقة تاريخية ثابتة لا سبيل إلى الشك فيها. وقد أيّد ذلك لإي أيامنا الآباء اليسوعيون البولنديون في دراساتهم النقدية لتراجم القديسين، مستندين إلى ما ذكرناه من أقوال المؤرخين المعاصرين، وإلى التقليد الشعبي المتتابع من أوائل القرن الرابع في تكريم القديس والإفاضة في ذكر فضائله وكراماته.
ومن أقدم الكنائس المشيّدة على اسمه، بعد كنيسة القسطنطينية التي ذكرناها، كنيسة البثنية من أعمال حوران المشيّدة سنة 367 . ثم كنيسة أزرع في حوران أيضاً وهي لا تزال قائمة وإن كانت أحداث الدهر، وغزوات المعتدين قد نالت منها كثيراً.
وكان طبيعياً أن يتوسع الرواة في أعاجيب القديس جرجس ومعجزاته، كما توسّعوا في تنويع عذاباته، فتظهر الحقيقة على أروع ما يمكن من التأثير في الشعب، ويحيا التاريخ في مظاهر الاسطورة.
نموّه في الخيال: ولعلّ ما يُذكر من هذه التوسعات الاضافية ما تناقلته السنكسارات الشرقية من أن ديوقليسيانوس دفعته الشفقة على الضابط الشاب، بعد اثخانه بالجراح، وأراد تخليصه من الموت، فعرض عليه، باللطف والغراء، أن يعود إلى صوابه، ويرفع الذبائح للاله أبولونظن كافراً بالمسيح، فتظاهر جرجس بالقتناع.
ولمّا كان اليوم الثاني، موعد ارتداد جرجس، تقدم الامبراطور في موكب الأعيان، وجمهور الشعب، ليحضروا تقديم القربان للاله أبولون. وإذا بجرجس يتقدم ببطء إلى تمثال أبولون، فيتفرّس فيه ملياً، ثم يرسم على وجهه إشارة الصليب، ويقول للصنم بصوت عال: "أتريد أن أقدّم لك الذبائح كأنك إله السماء والأرض؟".
فيخرج صوت جهوري من أحشاء الصنم: "لا! لا! أنا لست الإله، إنما الإله الذي تعبده أنت". ثم يسقط الصنم على الأرض، وتسقط معه سائر الأصنام في الهيكل. وتخرج من الجدران أصوات منكرة تذعر الشعب. فيصيح الكهنة: "جرجس حطّم آلهتنا بسحره الشيطاني. فالموت للساحر!". فييثور الشعب على جرجس، ويهمّ بتمزيقه فيخلّصه الجنود. ثم يأمر الامبراطور بقطع رأسه ليهدئ ثورة الشعب.
وأوسع الحكايات وأغربها ما جمعه صاحب كتاب "بغية السائلين" في أخبار الرسل والأنبياء، وهو كاتب مسلم، أطلع على ما رواه الطبري في كتاب "الرسل والملوك" وما توسّع فيه الثعلبي في "قصص الأنبياء"فزاد عليها حتى جعل الملك يقتل جرجس ثلاث مرات ويذري رماده، ثم يقيمه الله، فيعود ألى التبشير بالإله الحق، والازدراء يأفلّون وسائر الأصنام. فيغضب الملك الغضبة الأخيرة وتكون الميتة الرابعة النهائية.
ولا شك في أن هذه الحكاية كانت مشهورة متداولة في الأوساط المسيحية والإسلامية من أعالي الجزيرة إلى صعيد مصر، حتى أمكن أن يشير إلى تفاصيلها الميمر المتلو لدى الأقباط في عيد القديس المذكور والمنسوب إلى بطريرك المشرق على النساطرة غيليا الثالث المعروف بابن الحديثي (1177 – 1190).
اسطورة التنين: وينتج من تحريات الآباء الولنديين أن ظهور التنين في حكاية مار القرن الحادي عشر. والتنّنن على ما استقر عليه جرجس لم يسبق التفسير، يمثل ابليس اللعين، عدوّ الكنيسة وأبنائها. وكما أن ابنة الملك ترمز إلى الكنيسة نفسها، عروسة المسيح، التي يهددها ابليس. ولا يخفى أن ابليس، في حكاية القديس جرجس، كان هو المتكلم في جوف أبولون، الصنم الأكبر. فيكون أن القديس جرجس بإسقاطه الأصنام وطرده ابليس من جوف الصنم الأكبر، قد خلّص الكنيسة من عدوّها اللدود. وهكذا اقترن الرمز بالحقيقة.
وما أن نقل الصليبيون هذه السيرة الممتعة إلى بلادهم حتى غدت مجالاً لأرباب الفن، سرداً، وتمثيلاً، ورسماً أو موسيقى. فبدا مار جرجس في بعض جدرانيات الكنائس قائداً شجاعاً يبرز في طليعة الجيش. وظهر في تمثال شهير في كاتدرائية شارتر بفرنسا وآخر في فلورنسا في ثياب الحرب، متوثباً للقتال. ومثّله بعضهم خيّالاً فارساً يعارك التنين انتصاراً للفتاة المظلومة المعرّضة للافتراس. وهناك العديد من الايقونات البيزنطية والروسية. ومنها أيقونة كنيسة مار جرجس في كنيسة مار جرجس في السليمانية.
وكان لا بدّ من بحر يخرج منه التنين، ومن ساحل يكون ميداناً للعراك. وكانت انكلترا أول من ادعت هذا الشرف لساحلها. وكان لمار جرجس إكرام بالغ فيها وأعلن شفيعاً للمملكة وكثرت الكنائس المبنية لاكامه، وتسمّى عدد منملوكها بإسمه، ونقشوا صورته على نقدها الذهبي إلى اليوم.
وتكوّنت منذ القرون الوسطى حكاية خروج التنين من بحر بيروت، ومصرعه برمح مار جرجس على الساحل، قرب نهر بيروت. وعمّ الإيمان بذلك المسيحيين والمسلمين على ما يستنتج من قول صالح بن يحيى (+1436) في كتابه تاريخ بيروت: "زعم النصارى أن في القديم خرج من بيروت تنين عظيم. فقرر أهل بيروت له، في كل عام، بنتاً يخرجونها إليه اتقاءً لشره. فوقعت القرعة، في سنة من السنين، على صاحب بيروت. فأخرج بنته ليلاً إلى مكان موعد التنين. فتوسّلت بالدعاء إلى الله. فتصوّر لها مار جرجس القديس. فلما جاء التنين، خرج عليه مار جرجس فقتله. فعمّر صاحب بيروت في ذلك المكان كنيسة بالقرب من النهر". وباسم مار جرجس سُمي الخليج المحيط ببيروت.
ولا شك في أن لمار جرجس نظراً لكثرة المتعبّدين له مكانة خاصة بين القديسين الشفعاء في السماء أيضاً.
ماذا يقول التاريخ في مار جرجس؟
كان القديس جرجس من أشراف "كبادوكية". والداه مسيحيان ربياه على الفضيلة وأدخلاه سلك الفرسن، فتعلم فنون الحرب ونشأ شاباً مقداماً. وقد اتصل بالملك ديوكليسانوس فأحبه لبطولته ورقاه إلى رتبة قائد، وهو ما يزال في سن العشرين.
وفي ذات يوم أعلن الملك اضطهاداً على النصارى في مجمع وزرائه حضره القائد جرجس، فتصدى هذا للملك يعارض الاضطهاد ويبين فضائل النصرانية. وبعد أخذ ورد مع الملك إلا اعتقاله والأمر بتعذيبه. ثم عاد فاشفق عليه واستدعاه يوماً ومعه جمهرة من أعوانه إلى هيكل الأصنام وأخذ ينصحه بترك النصرانية والسجود للأصنام فيصفح عنه ويعيده إلى رتبته.
عندئذ التفت جرجس إلى الأصنام وصاح بها قائلاً: "من أنتِ أيتها الأصنام أفصحي عن أمرك. هل أنت آلهة تستحقين أن أسجد لك وأعبدك؟ " فأذن الله أن تجاوبه الأصنام بالنفي قائلة: "انها ليست إلا حجارة لا حياة لها ولا قوة". فرسم جرجس على وجهه شارة الصليب وهو يقول للأصنام: "فليسحقك الله!". وإذا بالأصنام تتساقط كلها إلى الأرض محطمة مهشمة.
بهت الملك والحاضرون من هول ما رأوا وتولاهم الخوف والذهول. وكان إلى جانبهم كاهن من كهنة الأصنام معروف بالدهاء فتقدم من الملك والأ‘وان وأقنعهم بأن عمل جرجس لم يكن إلا ضرباً من السحر والشعوذة، وطلب من الملك أن يتلافى أثره اليء في الناس بقطع رأس الضابط، وإلا فلا يطول الأمر حتى يصير كل من يسمعون بخبر هذا الحادث مسيحيين، وفي ذلك خراب المملكة وسقوط الملك عن عرشه.
استصوب الملك ما يل له وأصدر أمره بقطع رأس جرجس وبذلك نال اكليل الشهادة سنة 303 وله من العمر 23 سنة.
أساطير شعبية عن مار جرجس
ولم تلبث أخبار الشهيد جرجس أن تسربت إلى الأوساط الشعبية فأخذوا يبنون عليها القصور والعلالي. وبعد أن عزت النصرانية بتنصر قسطنطينأُقيم له عيد بولغ في تكريمه وأخذت الخوارق تتوافر بشفاعته ولكن الناس عمدوا إلى المبالغة في التحدث عنها.
واتفق ان قسطنطين اتخذ جرجس شفيعاً لجيشه وأقام له تماثيل رمزية نصبت في بعض مدن المملكة، تمثله راكباً ظهر جواده وتحته تنين يطعنه برمحه إلماعاً إلى انتصاره على عباده الوثن، إلى جانبه فتاة يشير بها إلى البلاد أو المدينة التي خلصها من الشرك باستشهاده.
فمن هذا التمثال حاك العامة حول القديس جرجس اسطورة التنين وقصة بنت الملك ونسبوها إلى عدة مدن. وقام الزالون ينشدون عنها قصئد زجلية ضمنوها وصف الأسطورة كما كانت تتناقل على الألسن منها قصيدة "مديحة مار جرجس" هاك ملخصها:
أن جرجس كان ضابطاً رومانياً. وفيما كان على رأس فرقته في بيروت ظهر في بحر المدينة تنين عظيم كان يأكل الناس. فجمع ملك المدينة أهل مشورته وبحثوا في كيف يتلافون فتكه، وقرروا أن يقدموا له نعجتين حتى إذا ما أكلهما وشبع يكف عن العباد شره. ولكن التنين كان يؤثر لحوم الناس فظل يفترس أي من ساقه سوء طالعه إلى الوقوع بين براثنه.
عاد الملك فعقد مجلساً استطرد فيه البحث في كيف يحصر ضرر التنين. فقرَّ القرار على أن يقدم له كل يوم نعجة ومعها فتاة تنتخب بالقرعة من فتيات المدينة دون ما فرق بين الأشخاص والدرجات.
أصابت القرعة ذات يوم بنت الملك وكانت فتاة بارعة الجمال. فأحدث وقوع القرعة عليها ضجة كبيرة في المدينة ومشى الملك والناس وراءها إلى البحر وهم يودعونها ويبكون. ولكن ما هو ان مشت الفتاة إلى التنين الممدد على الشاطئ فاغراً فاه لابتلاعها، حتى شاهدت الضابط جرجس يسبقها إليه وهو على ظهر جواده والرمح مشرع في يمينه يسدده إلى صدر التنين.
ظنت الفتاة أن الضابط الشاب يغرر بنفسه معرضاً ذاته للموت في سبيل جمالها، فأشفقت على شبابه ونصحته بالهرب. ولكنه لم يفعل، بل اقتحم التنين بقلب قُدّ من حديد ورشقه برمحه فأرداه قتيلاً.
ارتفعت هتافات الفرح من الملك والأهلين وتقدموا من الضابط يشكرونه وعرض عليه الملك تزويجه من الفتاة. فأبى قائلاً انه فعل ما فعل قياماً بواجب دينه. فسألوه ما دينك؟ أجاب النصرانية! فتنصر الملك وكل رعيته. أما التنين فقد رموا جثته في البحر يجرها سبعة فدادين. وأقاموا على اسم القائد جرجس بعد استشهاده كنيسة قرب المحلة التي قتل التنين فيها..
مواضيع مماثلة
» القديس اثناسيوس
» القديس دانيال كمبونى
» القديس اغسطينوس أبن الدموع
» القديس انطونيوس الكبير
» القديس مقاريوس الكبير
» القديس دانيال كمبونى
» القديس اغسطينوس أبن الدموع
» القديس انطونيوس الكبير
» القديس مقاريوس الكبير
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء أبريل 25, 2012 10:22 pm من طرف هنرى هانى
» بحث في الكتاب المقدس
الأربعاء أبريل 25, 2012 10:19 pm من طرف هنرى هانى
» تنزيل الكتاب المقدس
الأربعاء أبريل 25, 2012 10:17 pm من طرف هنرى هانى
» مكرونة بالخضار صيامي
الأربعاء أبريل 25, 2012 10:11 pm من طرف هنرى هانى
» كباب على الطريقة العراقية (كفته)
الأربعاء أبريل 25, 2012 10:00 pm من طرف هنرى هانى
» الدجاج المحشو بالأرز والزبيب
الأربعاء أبريل 25, 2012 9:52 pm من طرف هنرى هانى
» المهلبية بالشوكولاتة
الأربعاء أبريل 25, 2012 9:49 pm من طرف هنرى هانى
» الحواوشى بالعجينة
الأربعاء أبريل 25, 2012 9:47 pm من طرف هنرى هانى
» كيف تجعل إبنك..مــتــواضــعاً
الأربعاء أكتوبر 05, 2011 1:54 pm من طرف gurgis